إبراهيم أصلان: هوامش على دفتر الثورة
كتابه الجديد يحكي يوميات «ميدان التحرير»
الأخبار ـ محمد شعيرـ القاهرة :
كثيرون يسألون: أين هم أدباء الستينيات، منذ زلزال ٢٥ يناير؟ كان لا بدّ من استيعاب المنعطف التاريخي، قبل الكتابة. ها هو «مالك الحزين» يطلّ بـ«انطباعات صغيرة حول حادث كبير» الذي نشر بعضه في الصحافة. من الحكايات الفرديّة، يتخذ الروائي المصري ذريعة لاستعادة تلك الأيّام التي هزّت العالم...
»هناك أشياء نكتب عنها... وأشياء نكتب بها»، عبارة يكرِّرها إبراهيم أصلان غالباً، لوصف حالة الكتابة لديه. هو صياد ماهر. في طفولته، كان الصيد هوايته الوحيدة. يصنع صنَّارته بنفسه. يربط الخيط في الصنارة، ويضع فيه قطعة فلّين، ليعرف من خلال حركته، نوع السمكة التي اصطادها. لم يخذله النهر يوماً. والكتابة، لدى أصلان، مثل الصيد. ومثلما يحتاج الصيد إلى صبر ومقدرة، تحتاج الكتابة إلى ذلك أيضاً. في كل حدث ثمّة لحظة أساسية تتضمن «اللي راح واللي جاي... تتضمن الدنيا كلها».
صاحب «مالك الحزين»، هو أكثر أدباء الستينيات ابتعاداً عن العمل السياسي، العلني منه والسرِّي. لم يحلم عبر الكتابة بتغيير العالم، كما فعل كثر من أبناء جيله. لا يحب أن يكون فرداً في جوقة تؤدي لحناً واحداً. فهو لا يستطيع أن يعيش في ظلِّ توجيهات مهما كانت طبيعتها. هو يعزف اللحن ذاته الذي يعزفه الآخرون، لكن هناك، بعيداً في الظلّ. هكذا لم تغب القضايا الكبرى عن كتاباته، رغم أنّه يردِّد دائماً: «ليس لديَّ معانٍ أو رسائل كبرى أريد إيصالها إلى القارئ، كل المعاني وصلت وانتهى زمانها».
«انطباعات صغيرة حول حادث كبير»، هو العنوان الذي اختاره إبراهيم أصلان لكتابه الجديد. العمل قيد الكتابة، وقد أنجز صاحب «يوسف والرداء» 17 فصلاً فيه. يتناول الكتاب الثورة المصرية، أو هو «كلام جانبي على هامش هذا الحدث الذي يستعصي على الكتابة»، بحسب تعبيره. أصلان العازف عن السياسة، كان في قلب المشهد. كان موجوداً في ميدان التحرير، متابعاً يقظاً، ومعلقاً على الأحداث، لكن من وجهة نظر فنية. تسأله كيف يمكن الفنان أن يتعامل مع الأحداث الكبرى مثل الثورات، والحروب... أو ما يسميه أصلان «المسائل الكبيرة»؟
يجيب: «الحياة لا تعلمنا فقط ماذا نكتب، بل كيف نكتب أيضاً». ثمّ يضيف: «الثورة حدث كبير، لا يوجد ما يكافئه فنياً. وأيُّ حدث يكتسب أهميته من تأثيره في نسيج العلاقات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، أعني المياه الجوفية للمجتمع». في رأيه الوسيلة المثلى لتناول الثورة هي الاتكاء على ذريعة سرديّة. «فإذا تذكرنا أن هبوط جندي بساق واحدة وعكاز من قطار في محطة قريته الصغيرة، يمكن أن يختصر حرباً كاملة، يتضح ما أعنيه بهذه الذريعة (...) هذه الذرائع الإنسانية البسيطة هي سبيلنا للتعبير عن ثورة «25 يناير» بحجمها الكبير، وعن أي حدث كبير آخر».
يرى الأديب المصري أنّ الكتّاب لا يتربصون بالأحداث، بل «يعيشونها بطرق مختلفة، كلٌّ بحسب درجة حساسيته». في الفصول التي أنهاها من كتابه، يدوّن تفاصيل بسيطة غير دالّة على أنّنا أمام ثورة، لكن هناك «جو عام» يحرِّك الأحداث. سنجد امرأة اعتادت تنظيف السجاد على شرفتها، وهي تفاجأ بدبابة تقف أسفل الشرفة. سنجد العجوز الذي أغلق الباب على نفسه وقت الثورة.
سنقرأ عن بائع الفاكهة الذي اعتاد أن يضع إلى جوار مقاطف الخضر، سبتاً خالياً يلقي فيه الثمار المعطوبة. وفي كل صباح قبل الثورة، كان يأتي رجل عجوز، ويركع في جوار هذا السبت، وفي يده سكين صغيرة حادة، وينتقي بعض الثمر، ويستأصل ما بها من عطب، يتركه في القفص، ويأخذ ما بقي مهما كان ضئيلاً. تفاصيل صغيرة من الواقع يرصدها أصلان، «لأنّ عمل المخيلة في ظل واقع الثورة المتغيِّر صعب. هذا الواقع يغير مزاجك أنت. أحياناً تستيقظ صباحاً في مزاج متفائل، وبعد الظهر تصبح متشائماً».
تحوّلات كثيرة أحدثتها الثورة من وجهة نظر أصلان، ستنعكس على تكوين الشخصية المصرية. وأهم تلك التحوّلات انهيار حاجز الخوف، وزوال حالة تقديس الحاكم، وتغيّر أنماط العلاقات الاجتماعية. كل هذه التحولات ستولِّد «أدباً جديداً» يعبِّر عن المرحلة، تماماً كما حدث عقب ثورة 1919. ويرى أصلان أنَّ شعار الثورة نفسه: «الشعب يريد...» كان عودة إلى المتلقّي، «وهذه العودة تترتب عليها نهضة حقيقية».
يتأمل أصلان الثورة إبداعياً، ويرى أنّه «لا يوجد حدث في الدنيا له لحظته الأساسية مثل الثورة المصرية. البداية كانت مع قدرة الشباب على إيجاد النغمة الصحيحة التي استجابت لها الجماهير. ثمّ علت النغمة حتى وصلت إلى ذروتها مع عمر سليمان وهو يعلن تنحي الرئيس. ثورة يوليو 52، كان تأثيرها كبيراً في مصر. لم يكن جيل الستينيات قد نضج على نحو كافٍ حينها، لكنّه عاش أحلامها وانكساراتها، إلّا أنّ هزيمة 67 هي التي صنعت الجيل. يقول أصلان: «جيل الستينيات لم يكن جيلاً مدجّناً على الإطلاق، وكتاباته كانت مشحونة، وكل صوت هو نذير كارثة... وعندما جاءت هزيمة 67، تجاوزت كلّ مخاوف هذا الجيل. لا يمكن أن نتخلّص من النكسة، إلا لو مات كلّ الأحياء الذين شهدوها».
إذا كانت النكسة قد كونت جيل الستينيات، وحرب الخليج كوّنت جيل التسعينيات، فهل ستتمخّض ثورة «25 يناير» عن جيل جديد في الكتابة والفن؟ «الثقافة هي السند الوحيد لقيام جيل في أي مرحلة»، لا الأحداث الكبرى فقط (...).
«المفترض أن ينشأ جيل، لكن ينبغي أن نبحث عن القيمة.
الكاتب ليس قاضياً ولا متّهماً إلا قليلاً. إنّه شاهد حقّ على العصر الذي يوجد فيه، وهذه كبرى الأمانات التي ينبغي أن يوفِّيها».