إبراهيم محمد حمزة يكتب: كتاب "الخبز".. متعة الغناء للفقراء
اليوم السابع : السبت، 13 أغسطس 2011 - 22:54
غلاف كتاب الخبز
كأن شطره من قصيدة "حافظ إبراهيم" الشهيرة (يخال الرغيف فى البعد بدرا) كأن هذه الشطرة قد تمددت لتصبح ديوانا كاملا، هو"كتاب الخبز" للشاعر كريم عبد السلام، الذى ينحاز فيه بوضوح إلى من يعرفهم، ويحبهم ويكتب عنهم، مجسدا علاقة لا مثيل لها فى أى شعب بين "الرغيف" والبشر..
الديوان بغلافه المميز للفنانة بسمة صلاح، والذى تصور فيه عشرة أيادٍ ترتفع لأعلى نحو دائرة مخاتلة تسعى لتشكل "رغيفا"، الديوان ينتمى لنوعية دواوين الموضوع الواحد، مجسدا انتماءه الصادق، ربما من الإهداء (إلى أرصفة القاهرة، مدافنها المسكونة، وجسورها السماوات، وناسها الصابرين) لم يقل الشاعر ناسها الطيبين، إنما أسس لرسالته الشعرية، المتوهجة المتوجهة إلى هؤلاء الباحثين عن خبزهم المشتهى النادر، فى القصيدة الأولى وعنوانها "ما قاله الرغيف للشاعر" نقرأها كاملة (أقول للجائع خذنى/ فتحتجزنى يدُ السارق/ أقول للمسكين هيت لك/ فتمنعنى يدُ العسكرى/ أقول للأب المهموم: إلى إلى/ فتسبقُ يد التاجر/ أقول للطفل الضائع على الرصيف/ أصعدُ إلى سمائك الكالحة قمراً/ وأنت تنظر لى وتغنى/ فترعد السماء الكالحة وتمطر/ على رأس الطفل الضائع.
يعود "كريم عبد السلام" فى ديوانه إلى صفاء الشعر ورقرقته البهية، يتحول الرغيف دنيا كاملة يسعى الناس لها، يتجلى وعى الشاعر ثائرا لفقرائه المسروقين من العسكرى والتاجر، بل تصل الجرأة بالشاعر فيجعل الكون يصب غضبه على الطفل الضائع تحت وحل المطر وصقيع الرصيف.
ـ وعاء الكتابة:
تتحرك الكتابة لدى بعض مفكرى البنيوية لتصبح هى القيمة الأولى، متجاوزة فكرة أنها حدث ثانوى يأتى بعد النطق، وبتعبير "جاك دريدا" الكتابة تحل محل النطق، لكنها ليست وعاء لشحن وحدات معدة سلفا، إنما هى صيغة لإنتاج هذه الوحدات".
وهكذا يسعى الشاعر لإعادة صياغة وحدات دلالية، بحيث يمنحها قدرة على صنع حياة مجازية كاملة موازية للحياة، حياة خارجة من رحم حياة حقيقية، حيث يحتفى باليومى والمعيش، لا إنتاج دلالات ولا للتنوير، إنما إعادة رؤية الإنسان المقهور لذاته بشكل أوضح، وإحداث أكبر قدر من التعاطف الجمالى، فالنص الأدبى– كما يقول د.مراد مبروك– مؤسسة حياتية أداته اللغة " ومن هنا يشكل بها الشاعر قصيدته العذبة "ناس القمر الساخن" بادئا بجملة ( فى بلادى/ عندما تسقط كسرة خبز/ تصالح بالقبل).
مشهد سردى عابر مكتمل الدقة، منحازا لعادات حياتية مصرية، حين يسقط خبز على الأرض فترفعه ونقبله لأنه نعمة، يلتقط الشاعر المشهد، ويعيده برونق جديد، عبر تماس مع قصيدة "خبز وقمر وحشيش" بطريق المخالفة أو قل المفارقة، فبينما نزار يجلد ذاتنا العربية فى قسوة غير مبررة، ينحاز "كريم عبد السلام لملح هذه الأرض: فقراءها، ولذلك لا يميل الشاعر فى هذا الديوان تحديدا، إلى الترميز، أو إنتاج دلالات جديدية للمفردة اللغوية، ولا على بناء لغوى معقد، إنما يؤسس لاكتشاف علاقات جديدة، لاكتشاف التجانس الكونى بين الأشياء، أو ما سماه الناقد عبد العزيز موافى بـ "شعرية التقرير" والتى يعدها أولى خصائص القصيدة الجديدة.
ـ مشهدية اللحظة الشعرية:
لكن الظاهرة الأبرز فى الديوان هى الاعتماد على المشهدية السردية، وهى مسألة لا تختص بكريم عبد السلام، بقدر ما تميز التيار الشعرى كله ،عبر لغة حدثية ، لها قدرة إشارية نابضة، غارقة فى مجازات هادئة مشعة، عبر الالتزام بالسرد الشعرى، يتحدث عن الخبز منشدا (بسببه/ عرفت البنت معنى السعادة/ عندما ظهر فارسها وسط الزحام/ مكافحا بدلا منها/ وكلما مرت بالمخبز/ تذكرت: كيف مس ظهرها صدرُه/ فارتاحت عضلاتها بين يديه/ ورأت السماء زرقاء صافية).
يشكل الشاعر لوحاته عبر مشاهد، مستخدما لغة القصة القصير جدا بتتالياتها وإيجازها، وبلاغتها، وكأن القصة هنا ترد الدين للقصيدة التى اقتنصت منها كثيرا من ألياتها ولغتها.
لكن الشاعر يسكب من روحه الساخرة على مشهدية الحدث، ليتحول إلى عبثية، كقوله ( بسببه/ نجت الزوجة الخائنة من العقاب/ بعدما قطعت رغيف الخبز نصفين أمام عينيها الباكيتين/ وأقسمت بالنعمة/ أن عشيقها الذى صادفه الزوج مهرولا/ على سلالم البيت/ ليس خارجا من بابها المصفوق توا/ كيف لا يصدق زوج رغيفا مقطوعا نصفين/ أمام عينين باكيتين!!).
يتكامل الديوان متتبعا كافة عناصر تعاملاتنا مع الخبز، بمعناه الأشمل: الفقر/ الحياة/ القهر/ الاحتياج إلخ.
ثم انتقال هذه العناصر لحالة التدنى والسقوط، ثم التحول على التوحش، بهذه الإشارات يتحول نص الشاعر على "مؤسسة حياتية" عبر حدث دامى الطابع، نجدها فى قصيدة "الخروج إلى الخبز" كأنه خروج إلى القتال، وفى لقطة مشهدية بهية بعنوان "والدم يحرك كل شىء" تظل عبارة محورية، ترصد المعارك التى تدور حول الخبز، يحاول الشاعر التخفيف منها بلقطة تالية تصور حدب النساء على امرأة تطعم رضيعها من صدرها، فتلتف حولها النساء، لإخفائها عن العيون، ثم يصطنع الشاعر شخصية محزنة هى "الحاج عبد الحميد" عبر مفارقة بين الرجل الذى عاش تجربة الحرب وانتصر فيها، لكنه هزم فى معركة الحياة، معركة الحصول على الخبز ( الآن.. الحاج عبد الحميد فى الثانية والستين/ سقط صريعا تحت الأقدام الجائعة/ ولم يعد يحتاج إلى الخبز).
مشاهد تتحول عبر لغة وشاعرية كريم عبد السلام إلى شعر خالص، رغم صعوبة النظر لهذه المشاهد بعين الشاعر، حتى الصفات التى يصطنعها الشاعر تحمل قدرا من التحميل الدلالى (الأقدام المتشنجة ...الأقدام الجائعة إلخ..)
ثم تتعالى مشهدية السردية التى يبدعها الشاعر فى قصيدة "العم سيد والنمر" تنضم القصيدة إلى بقية القصائد بالديوان التى ترثى الفقراء، الذين يشترون الحياة بالموت، أو بالسقوط، العم سيد راعى الحيوانات المتوحشة، الذى يقرر بعد ربع قرن أن يقدم ساقه وجبة للنمر الجائع، كى يأخذ تعويضا ينفقه على بناته الفقيرات، هنا طلقة السياسة الواضحة التى تكاد تقتلنا قتلا (بعد أن ضاقت به الأرض/ بعد أن بكت بناته من الجوع/ سأل العم سيد العينين الصفراوين للوحش:/ يدى أم قدمى/ قدمى أم يدى).
ـ السياسى فى الشعرى:
تفرد السياسة ظلها بغبائها وقسوتها، وتتمدد متوحشة بين صفحات الديوان، لتؤكد وجود قاتل ما لكل هؤلاء القتلى، إنهم من اندس فى حياتنا، وخانونا، لكن الحياة تتشكل لدى كريم عبد السلام فى طابور الخبز، وتتجمع المصالح والمشاغل والمكاسب فى طابور الخبز وفى رغيف الخبز ذاته، إنه الأرغفة المشتهاة المنظورة من المندسين فى الصف من جانبه، أجمل ما فى اليدوان وأجمل ما فى هذه القصيدة – عليكم أن تخجلوا– أن الشاعر جعل العالم كله أو على الأقل الوطن كله مخبزا، وجعل الشعب كله طابورا أمامه، لذا يخرج الشاعر أوجاعه بطلقاته التى لا ترد (أنتم الذين زورتم الانتخابات/ كيف تجرأتم ونبشتم القبور/ لتسجلوا أصوات الموتى فى كشوفكم/ أنتم الذين فى الصحف الكاذبة/ وفى الأمن المركزى/ عليكم أن تخجلوا...).
ديوان لافت أكمل فيه صاحبه رحلته بعد عدة دواوين (استئناس الفراغ، بين رجفة وأخرى، باتجاه ليلنا الأصلى، فتاة وصبى فى المدافن، مريم المرحة، نائم فى الجوراسيك، قصائد حب إلى ذئبة).
ديوان قادر على مصالحة قارئ قصيدة النثر، الذى فر خائفا من عصيان الرمز، وضبابية الإشارة وآلام التلقى.