اخبار الأدب والثقافة

الاثنين، 28 نوفمبر 2011

في "ليبيا القذافي".. أنت مبدع إذن أنت مقتول!!


في "ليبيا القذافي".. أنت مبدع إذن أنت مقتول!!
جريدة القاهرة : العدد 598 الصادر فى 22/11/2011
نوع آخر من التنكيل مارسه القذافي غير القتل الفعلي للناس، هو قتل الفكر والإبداع والابتكار وحق التميز والنجاح، واذا كان القتل الفعلي للأجساد وكتم الأنفاس وسفك الدماء انتقائيا، والقيام به يحتاج إلي نوع من الفرز، فإن هذا القتل الاخر، القتل الإجرامي للإبداع والابتكار كان شاملا لكل الناس، لا يستثني أحدا، ومن أجل هذا الغرض أنشأ الطاغية القذافي جهازا أمنيا لهذا الغرض، إنه ليس جهازا هذه المرة لمطاردة المعارضين ومتابعتهم وضبطهم، وإنما جهاز أمن ضد التفوق والتحقق والنجاح أسماه جهاز مكافحة النجومية، وهنا يسجل القذافي فرادة، ويحقق سبقا، لا نجد له نظائر في العالم، والا من تراه يستطيع أن يشير إلي وجود مثل هذا الجهاز الامني في اي دولة في العالم، مهما كان نظامها بدائيا متخلفا، أو مهما كان موغلا في استبداده وفرديته، فلا وجود لأي دولة في العالم، ولا نظام في العالم امتلك مثل هذا الجهاز عدا الجماهيرية العظمي لصاحبها القائد العظيم الواحد الأحد الفرد الصمد والعياذ بالله الذي لا شريك له في قهر البلاد والعباد إلا أطفاله الأخ العقيد معمر القذافي . مكافحة النجومية إذ ان كل العالم يعرف أجهزة أمنية لمكافحة الجاسوسية، أو مكافحة الجريمة، أو مكافحة المخدرات، الا الجهاز الامني لمكافحة النجومية، فهذا اختراع لا يملك حق اكتشافه وبراءة اختراعه إلا الزعيم القذافي، وهو جهاز سري ليس فقط في طبيعة عمله، ولكنه سري حتي في وجوده، فلا احد يعلم به، ولم يكن يظهر في أي وثائق، كتلك التي تنشر بمناسبة مؤتمر الشعب العام، عندما يتم نشر أو ذكر كل الأجهزة الأمنية أمام أعضاء المؤتمر باعتبارهم شكليا وصوريا أعلي سلطة في البلاد، كما يتم تحديد الادارات والاختصاصات إلا هذه الإدارة التي لا يأتي ذكرها ولا تتعرض الوثائق لاسمها ولا يسمع أحد اي مداولات علنية عنها، الا اذا تصادف أن تداولها بعض الناس سرا، وهو ما حدث بالنسبة لي، فقد كنت أسمع عن وجودها، دون أن اجد أحدا يؤكدها لي، ولم يصبح وجود هذا الجهاز الامني معروفا، الا بعد أن بدأ نظام القذافي يتقوض وينهار في شرق البلاد، عندما كشف ثوار بنغازي عن وجود فرع لجهاز أمن مكافحة النجومية في بنغازي، وطبعا بعد سقوط طرابلس في يد الثوار، وفضح بعض أسرار النظام، ومنها سجون سرية، ومقابر جماعية، وأجهزة قمع أمنية مثل هذا الجهاز، رغم أن وثائقه ظلت سرية وطبيعة العمل الذي كان يقوم به ايضا لم يتم كشفه، ولو أنه من السهل التكهن بما كان يقوم به، وما كان يرتكبه من جرائم في حق الموهوبين والناجحين وأصحاب الملكات الفنية، والأدبية، والعقول الكبيرة في مجال الاختراع، لأن معناه بصراحة هو ممنوع النجاح، ممنوع التفوق، ممنوع الإبداع، ومن يجرؤ علي فعل ذلك فانه سيكون موضع مطاردة وملاحقة وعقاب. المحميات الشيوعية ونعرف جميعا أن اقطارا كثيرة عرفت حروبا ضد المبدعين والمثقفين والفنانين والأدباء المناوئين لنظام من الأنظمة، وتصل المسألة إلي حد القتل، كما حدث في أنظمة شيوعية بدءا من الاتحاد السوفييتي في حملات التطهير علي يد السفاح بريا في عهد ستالين، وما حصل لكتّاب معارضين مثل باسترناك وسولجنستين وعلماء مثل الفيزيائي زاخاروف، وما يشاع قبل ذلك عن اغتيال جوركي، وما دفع شاعر مثل مايكوفسكي إلي الانتحار، عدا ما يحدث في المحميات الشيوعية التي تسمي دول الستار الحديدي، بل ان ملاحقة المناوئين للحكومات وصلت إلي الدولة التي تدّعي أنها ام الديمقراطية والليبرالية، امريكا نفسها، في الخمسينات أثناء موجة الرعب، التي قادها السيناتور الأهوج الأحمق المسمي جوزيف ماكارثي، في خمسينات القرن الماضي، ولكن أن تكون الحرب شاملة، ومطلقة، والعداء شاملا لكل أهل التفوق في العلم والطب والفن والفكر والثقافة والسياسة والادب والفن والرياضة، دون تفريق بين أهل الولاء وأهل الممانعة، أو بين المنتمين للنظام والمناوئين له، فهذا موضع الغرابة، لأن القذافي لم يكن يريد نجاحا، لأي إنسان مهما كان المجال الذي ينتمي إليه، أو كان مستوي النجاح، ليس بالضرورة أدبا وفنا ورياضة وعلما وطبا وغيرها من المجالات التي تمنح أصحابها الشهرة، ولكن اي مجال حتي لو كان عملا روتينيا اداريا، لا يحتاج لموهبة، ولا يقتضي ابداعا، فما أن يشتهر صاحب وظيفة، أو صاحب خبرة ادارية، أو يصل إلي مكانة، تؤهله لأن يخرج من عالم المغمورين، إلي عالم المعروفين، حتي تأتي التقنيات التي تقوم هذه الإدارة بتطبيقها، لاستخدامها ضده، بمنعه مباشرة من الوصول إلي هذه المرتبة أو تحقيق هذه المكانة، ولو أدي الأمر إلي تدبير فضيحة لهذا الرجل الذي أوشك أن يصبح علما في أحد المجالات، وكما قلت فان الجهاز كان مجهولا للناس، وبالضرورة فان أعماله ايضا كانت مجهولة، ولا نستطيع الآن الا أن نحاول الاهتداء من خلال وقائع حصلت في الماضي، لنعرف تفسيرها من خلال الكشف عن وجود هذا الجهاز، فما كنا نعرفه طبعا، وكان شعارا معروفا ورائجا وتعمل الإذاعة والصحافة علي إشهاره، وترديده، وتطبيقه في مجالها الإعلامي، هو الشعار الذي يقول لا نجومية في المجتمع الجماهيري، مما يقتضي ألاّ نري أناسا تسلط عليهم الأضواء في التليفزيون، ولا نري افلاما ولا نري مسرحا ولا نري مسلسلات تليفزيونية لأن مثل هذه المسارح، أو هذه المسلسلات، تقتضي بالضرورة، وجود ممثلين سوف يشتهرون عن طريقها، وباعتبار أن النجومية اساسا ممنوعة، فانه لا ضرورة بالتالي لوجود هذه المسارح والمسلسلات، ولا وجود للقاءات تتم مع فنانين وأدباء، ولأن وجود الفن وجود سابق عن نظام القذافي، ولا يستطيع الغاءه، والادب ايضا بكل أنواعه موجود، شعرا وقصة ورواية ومسرحا، قبل وجود القذافي فلا يستطيع الغائه، وكل ما يستطيع عمله، هو أن يمنع كل وسائل الاشهار والظهور لأهل هذه المجالات، وهذا ما عرفناه في ليبيا وتعايشنا معه، إذ يحدث طبعا أن يقدم الملحن والمطرب أغنية، لكنهما سيجدان صعوبات هائلة في تسجيلها، وصعوبات أكثر هولا في تصويرها، وأخري في الترويج لها، ثم تترك في مكتبة الإذاعة، دون أن تجد إذاعة تذيعها أو محطة تقوم ببثها، ولا وجود لسوق تجاري للفن أو إعلام خاص يتولي البث والإشهار، كما لا يجد أن مهرجانا أوحفلا عاما يعرضان من خلاله هذه الأغنية للجمهور، فتبقي متاحة في دوائر ضيقة معزولة، أو تذاع علي حين غفلة في الإذاعة، دون ذكر مؤلف أو ملحن أو مطرب، وهو ما كان يحدث في جماهيرية العقيد المعظمي، ولا سبيل إلي تغييره أو الاحتجاح عليه، وهو ما يحدث مثله لأهل الكتابة وأهل الرسم، فكل هذه الإبداعات، محدودة، محصورة، قليلة التوزيع، والانتشار، وهو ما كان واقعا يعيشه الكتاب والفنانون وحقيقة يتعاملون معها تحت نظام القذافي، ولكن ما لم يكن أحد يدرك وجوده، هو طبيعة الحرب الإجرامية التي كان النظام يخوضها ضدهم، والتي كان يسخر أجهزة أمنية عسكرية لتحريكها وتدبيرها لمحو اسمائهم وهدم انجازاتهم، وهو أمر حتي وان أحسوا به، إلا أنهم لم يكونوا يعرفون حقيقته، ويشعرون فعلا كأن أشباحا هي التي تتولي محاربتهم، لأنهم لا يرون سلاحا ولا جيشا، ولا معركة ومع ذلك يسقطون ضحايا، وكمثال علي ذلك رأينا أشهر مطرب، وصاحب أجمل حنجرة يعمل سائق شاحنة، لكي يعيش هو محمد صدقي، ورأينا صاحب أحلي حنجرة يعمل مؤذنا في جامع هو عادل عبد المجيد ولا يزال، وراينا مطربا كنا نعتبره صنو عبد الحليم حافظ اسمه خالد سعيد يموت وحيدا في غرفة مهملة، ويبقي ثلاثة أيام لا يعرف أحد بموته، ويصاب المطرب الشهير صاحب بلد الطيوب بداء السكري وتبتر رجله ثم يموت في عوز وفقر، ويصاب الأب الروحي للفن الحديث في ليبيا كاظم نديم بمرض خبيث دون أن يجد أحدا يعتني بعلاجه أو يجد أموالا يواجه بها نفقات العلاج حتي يقتله المرض بسبب الإهمال وغياب العلاج، وغير ذلك من نكبات ومصائب حصلت لمبدعين لم تكن بسبب الصدفة، أو جلبوها لأنفسهم، ولكن بتدبير وتصميم وترتيب من هذه الأجهزة، ولم يكتف النظام بتركهم للمرض والعوز والإهمال، وإنما عمل أكثر من ذلك فظائع لم يكن احد يجد لها تفسيرا مثل أن نري مؤلفا شهيرا للأغاني مثل الراحل مسعود القبلاوي موجودا في سرداب مظلم تحت الارض دون تهمة، لما يقرب من عامين، ثم الاعتذار له بأن سجنه جاء لوشاية مغرضة، وأن يعمد إلي توريط الفنان الكبير ونابغة الرسم الساخر الاستاذ الراحال محمد الزوأوي في عمل بالخارج يؤدي إلي سجنه في تونس لمدة عامين، لم يكن يأتي صدفة، وانما بتدبير وتصميم من أجهزة القذافي الأمنية التي حشرت اسمه حشرا في عمل يهدد الأمن التونسي، وأن يعمد إلي ترتيب مسألة مفتعلة للقبض علي الفنان علي ماهر ثم يضطر خوفا من السجن إلي الهروب خارج البلاد، والبقاء لعدة سنوات متشردا، برجاء أن يصدر أمر ببراءته، وكلها أعمال لم تكن نبعت من فراغ، واذا كانت هذه عمليات تقتضي تسخير جهاز أمني للقيام بها، فان هناك أمورا اخري لا تحتاج لجهود هذا الجهاز، مثل إصدار أمر بمنع اذاعة أسماء الرياضيين في المباريات، تطبيقا لشعار لا نجومية في المجتمع الجماهيري، الا أن ما حدث من جرائم طالت الرياضيين وتصفيات جسدية لهم ربما كان علي صلة بمثل هذا الجهاز، واذا كانت الدول تخصص الميزانيات لأن تطبع كتب ادبائها، في الخارج، وتضع الخطط لترجمة أدبهم، فالعكس بالنسبة للأدباء الليبيين هو الصحيح، ولا أريد أن أتباهي بنفسي، وأذكر أرقام الميزانيات التي صرفتها حكومة ليبيا، لتمنع وجودي في صحيفة، أو لتمنع دار نشر أجنبية من إصدار كتاب لي، وهو أمر أتركه لكتابة مذكراتي الشخصية التي تعرضت فيها لمثل هذه الاعمال، ولست وحدي من تعرض لذلك، لأن الليبي في عرف الطاغية لا يجب أن يظهر له اثر أو اسم أو صورة في اي مكان في العالم، ويمكن أن أضرب أمثلة بأكثر من مذيع ليبي لمع اسمه في الخارج في محطة فضائية عربية، ودفعت حكومة القذافي الأموال الكثيرة لتلك الفضائية لتحجب هذا المذيع أو تطرده، وأذكر هنا حادثة حصلت مع مذيع ليبي معروف هو الاستاذ عبد الفتاح الوسيع وهو كادر إعلامي كبير، وقع عليه الاختيار ليقوم بقراءة الدبلجة العربية لشريط وثائقي تليفزيوني عن الحرب العالمية الثانية، حيث قام بأداء الشريط بالإنجليزية ممثل شهير هو لورانس أوليفييه، وقام بالدور عربيا الاستاذ عبد الفتاح الوسيع، الذي صار صوته يظهر باللغة العربية، وصورته ايضا مكان صورة الممثل الإنجليزي، واثار وجود عبد الفتاح الوسيع في هذا الشريط غيرة السيد الرئيس الليبي وتحركت أجهزته تشترط إعادة تركيب الشريط وقراءته بمذيع غير ليبي، والا امتنعت ليبيا عن إذاعته والمساهمة بتمويله باعتباره جهدا عربيا إعلاميا مشتركا. غيرة القذافي وحكي لي أحد المذيعين، أن العقيد أرسل ذات مرة أفرادا من كتيبة الحراسة الخاصة به، يحملون الهراوات، وعندما وصلوا إلي الصالة المخصصة لاستراحة المذيعين، طفقوا يضربونهم بالهراوات، والسادة المذيعيون يتصارخون ويهربون عبر الأروقة، واعضاء الكتيبة يهرولون وراءهم، ولم يكن هناك احد يعرف السبب، غير غيرة القذافي من المذيعين، وبررها بعد ذلك بعذر أقبح من الذنب، عندما اعترف بإرساله أعضاء الكتيبة لتكسر عظام المذيعين، بسبب ما يرتكبونه من تكسير للغة، وهذه ليست نكتة وانما حقيقة أخبرني بها كبير مذيعي الإذاعة وأحد أصدقاء العقيد المتخصصين في نقل حفلاته وخطاباته السيد عبدالحميد إمبيرش، وهو موجود علي قيد الحياة، وكان المذيعون يشكلون مشكلة له لأنهم ينافسونه في الخروج علي الشاشة، وحاول طمسهم بأن أمر بعدم خروج المذيعين الا كصوت فوق الصور المرافقة للأخبار، وعندما تعذر وجود صور لكل الاخبار، أمر بألا يتم تصوير المذيع إلا من خلال اللقطات البعيدة التي تظهره مثل نقطة في الأفق، ثم مضي في حربه للمذيعين بأن اخترع شيئا اسماه جمهرة المواقع، وألغي بموجب هذا الاختراع وظيفة المذيع وطالب أن يتناوب علي قراءة النشرات مختلف المواطنين بما في ذلك بعض المعاقين، وظلوا لفترة يتعاقبون علي قراءة النشرات ولكن حجم ما كان يحدث من أخطاء، وما ينتج من كوارث، وما يتبدي من عبث، ومواقف ساخرة، وضع حدا لهذه الظاهرة، وكان دائما يذكر المذيعين في خطاباته بشيء من الاستهتار والاستهانة، وطبعا لم يكن يسمح أن تذكر اسماء الليبيين في النشرات أو أخبار الوكالة، وهو أمر اتبعه مع كل مسئولي الدولة فلا أحد من المسئولين يذكر اسمه في الأخبار، والاكتفاء بذكر اسم الوظيفة، أما في المؤتمرات الشعبية، فقد أعطي الناس أرقاما بما في ذلك أعضاء مؤتمر الشعب العام، وهو بمثابة السلطة الأعلي في البلاد، فالناس لهم أرقام، ويرفع العضو لوحته ليقول له رئيس الجلسة تكلم يا رقم كذا، وليس باسمه، واذا كان هذا يحدث مع أناس لا إبداع ولا ابتكار ولا عطاء لهم، فما بالك بمن تقترن اسماؤهم بالإبداع والإنتاج والابتكار والعطاء؟! هؤلاء كان يناصبهم العداء ويمنع ظهورهم، وسأبدا من نقطة البداية ومنذ مجيئه إلي الحكم، في عام 1969 فقد جاء لمجتمع له نجومه في الأدب والفن والإعلام والثقافة والصحافة والإدارة والسياسة، وكان سهلا عليه أن يقضي علي الجميع، باعتبار أنهم جزء من العهد البائد، الذين يجب أن يسدل عليهم ستار الصمت والنسيان، مهما كانت عبقريتهم، ومهما كان نشاطهم، ومهما كان سجلهم نظيفا نزيها، وفي هذا المضمار كان هناك ساسة شرفاء مشهود لهم بالكفاءة مثل الدكتور محيي الدين فكيني، فرغم أنه من كبار مثقفي البلاد، وابن مجاهد كبير، وله سجل وطني في العهد الملكي، وتولي مندوب ليبيا في الامم المتحدة، وكان موضع احترام الهيئة الدولية، وطاف جامعات امريكا في الخمسينات للتعريف بليبيا، ويتحدث بطلاقة اللغتين الفرنسية والانجليزية عدا العربية، فان احدا لم يسمع له اسما بعد الانقلاب، إلي أن مات بعد أكثر من ربع قرن عاشها مع نظام القذافي، ودون أن يسمح له باي مشاركة في ندوة أو صحيفة أو غير ذلك، وكان سهلا أن يتعاطي بشكل اجرامي مع هؤلاء الكبار الذين تولوا المناصب في العهد الملكي، ولكن ماذا يستطيع أن يفعل مع شباب لم يقتربوا من السياسة ولكنهم كانوا نجوما في الادب والاعلام والثقافة، لقد اخترع لهم شيئا لحرقهم اسماه محكمة الشعب، وقدم لهذه المحكمة كل هؤلاء الشباب، دون استثناء الا قلة منهم، وحاكمهم لا بما كتبوه باسمائهم وتحت مسئوليتهم، ولكن بحكم أنهم كانوا موظفين في الاذاعة أوالمؤسسات الصحفية والاعلامية، وحاكمهم بجريرة ما كان ينشر في تلك المؤسسات باعتبارهم شركاء فيه، أو ساهموا في كتابته، رغم أنه لم يكن يحمل اسماءهم، ولا يتحملون مسئولية تقديمه، ولم يكن مهما أن يكونوا مساهمين في ذلك العهد أو لم يكونوا مساهمين، كان الهدف هو تقديم جيل كامل إلي المحرقة واعتباره مدانا، وعندما استعان بهم لأنه لم يكن هناك وجود لغيرهم يقدم البرامج، ويقوم بتشغيل الصحف، استعان فقط بهم باعتبارهم مهنيين، وكان علي كثير منهم ألا يكتبوا شيئا بتوقيعهم، فهم يعملون في تحرير الصحف وكتابة المقالات دون أن تظهر اسماؤهم، وأعرف كتابا كانوا يتولون الإشراف الكامل علي صحف مثل الراحل محمد فخر الدين رئيس تحرير سابق لصحيفة طرابلس الغرب . وأشرف في عهد الانقلاب علي تحرير صحيفة لاتحاد العمال اسمها المنتجون، دون أن نقرا له اسما يشير إلي إشرافه علي هذه الصحيفة، باعتباره من العهد البائد، هكذا بلغت السخرة والاستعباد والإذلال، فالرجل كان يحتاج للعمل لكي يكسب به رزقه ويطعم أطفاله، فجري المسكين استغلاله علي هذا النحو، ولم تقتصرالحرب علي نجوم الرياضة ونجوم الفن ونجوم الإعلام ولكن كفاءات مصرفية، فقد وجد الاستاذ سالم عميش المصرفي العالمي أن بلاده ليبيا تقوم بسحبه، عندما تم ترشيحه ليكون مديرا للمصرف الدولي، ووجد أمين اللجنة الوطنية الليبية للتربية والثقافة والعلوم الدكتور مصطفي محمد، إجماعا من ممثلي الدول العربية علي اختياره رئيسا للجمعية العامة لليونسكو، وهو منصب دولي يكون خلاله هذا العنصر الليبي في مرتبة أعلي من أمين عام اليونسكو لمدة عام واحد، وقبل سفره بيوم أو يومين لاستلام المنصب، وجد أن قرارا صدر في ليبيا باعفائه من رئاسة اللجنة، يبطل بالتالي ترشحه للمنصب، كان المسكين يظن أن هناك خطا ما، وأن المسئول الذي أصدر القرار قد لا يعلم أن ليبيا مرشحة لاستلام أعلي منصب في اليونسكو، وهذا القرار سوف يحرمها من هذا الترشيح وسيذهب المنصب لدولة اخري، ولم يكن يعلم أن هذا هو المطلوب بموجب الحرب التي يعلنها القذافي علي النجومية، حتي لو جلبت شرفا للدولة التي يتولي رئاستها، ونفس الموقف حصل مع الدكتور علي الحوات الذي كان قد جاءه الدور وهو ممثل ليبيا في الإليكسو ليكون رئيسا لجمعيتها العامة، وتم سحبه قبل اسبوع من تلك الدورة التي كان سيتم فيها انتخابه، وذهب المنصب لدولة أخري غير ليبيا، ولاشك أن مناصب دولية كثيرة كان أصحابها يفاجأون وهم يرون ليبيا تقوم بسحبهم، عندما يحين موعد ترقيتهم، بل إن الكوتا الخاصة بليبيا، في المؤسسات الإقليمية والدولية، تكون دائما ناقصة، لكي تتضاءل الفرص أمام العناصر الليبية للوصول إلي مناصب دولية، ولم يكن غريبا أن نجد فرقة الفنون الشعبية التي كانت تعود بالأوسمة الذهبية من مهرجانات عالمية قبل الانقلاب، تحارب وتتضاءل مكانتها حتي التلاشي، ولم يكن غريبا أيضا أن يصل فريق الكرة القومي إلي النهايات، ثم يجد عرقلة تتسبب في افشاله، ووصل الأمر إلي أن ألغي العقيد مباراة لدخول المنتخب الليبي الدورة النهائية لكأس العالم مع الجزائر لتفويت الفرصة علي الفريق الليبي من الوصول إلي هذه المرتبة العالية، بل حدث في إحدي الدورات وبعد أن وصل الفريق الليبي إلي مباراته النهائية في كاس أفريقيا، أن ألغي الدوري، وألغي لفترة من الزمن كرة القدم، ويعلم أهل الفن أن الحكومة الليبية أنشات في مصر شركة للإنتاج السينمائي أنفقت عليها مئات الملايين من الدينارات، ولكنها كانت محرمة علي اي ليبي من أهل الفن، فلم تقدم مخرجا أو ممثلا أو كاتبا، مع أنها تستعين بمخرجين وممثلين وكتاب من كل العالم العربي، ويذكر صديقي الكاتب المصري محمد البساطي عندما ذهب لتحرير عقد مع الشركة حول إحدي رواياته وتساءل أثناء توقيع العقد ان كانوا يعرفون كاتبا روائيا من ليبيا اسمه احمد ابراهيم الفقيه، واستغرب أن احدا لم يتصل به، وسألته عندما نقل لي ما حدث أنه ممنوع بحكم القانون التعامل مع أي عنصر ليبي، دون أن يعلم احد كيف لدولة أن تنشئ شركة للإنتاج السينمائي في بلد آخر، ان لم يكن بهدف تشجيع الأنتاج المشترك والتعاون بين أهل المجال في البلدين، وهو ما لم يحدث فهناك من يقول إن القذافي يريدها لإنتاج مواضيع من اختياره، وآخر يقول انه يريدها لتكون سبيلا لتوريد الرقيق الأبيض له، وثالث يقول انها غطاء لعمله المخابراتي بدليل أن اخر مدير لها كان قد عمل مديرا لمخابراته الخارجية في فترة مضت. ومتابعة لمسيرته منذ أن استلم الحكم أقول إنه ألغي منذ الأشهر الأولي لحكمه، كل ما كان موجودا من صحافة خاصة، مع أن تقليد الصحف الخاصة كان تقليدا عريقا، فقد صدرت أولي الصحف الخاصة في ليبيا منذ القرن التاسع عشر عندما أصدر السيد محمد البوصيري جريدة الترقي، وبقي بعض هذه الصحف عائشا حتي إبان فترة الاستعمار الفاشي الإيطالي مثل صحيفتي الرقيب والعدل، وازداد عدد هذه الصحف إبان فترة الوصاية البريطانية في الأربعينات، ووصل عددها إلي العشرات إبان العهد الملكي، فجاء السيد العقيد وألغي عقود كل هذه الصحف، وأوقف صدورها، بل وصادر أبنيتها ومطابعها، وانشأ بديلا لها المؤسسة العامة للصحافة، ثم ضاق ذرعا بصحف هذه المؤسسة لأنها أرادت أن تتبع التقاليد الصحفية التي تدعو الكتاب لكتابة المقالات وتحرير المقابلات وكتابة التحقيقات الصحفية، واشتهرت مجموعة كانت تحرر صحيفة اسمها الأسبوع السياسي بطرحها الجريء للقضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية، تماشيا مع ما يرفعه النظام الانقلابي من شعارات، ومناصرة لليسار في العالم، إلا أن السيد العقيد وجد الأمر يتحول إلي شيء حقيقي، يتجاوز الشعارات الفارغة، فافتعل قضية لهؤلاء الكتاب الشباب، وأمر بالقبض عليهم في مسرحية عبثية هزلية، إذ انتهز فرصة وجودهم لحضور ندوة ثقافية تنظمها جمعية المرأة الجديدة في بنغازي احتفالا بذكري شاعر حداثي توفي في الستينات هو علي الرقيعي، وأثناء الاحتفال هاجم القاعة عدد من أعضاء اللجان الثورية، الذين أمروا الجمهور بالانسحاب، وأغلقوا أبواب القاعة، وأوقفوا الكتاب المشاركين في الندوة، وكان أغلبهم من محرري الأسبوع السياسي، وقالوا لهم إنهم يحملون فكرا هداما هو الفكر الشيوعي الذي يستوجب العقاب، وكان أعضاء هذه اللجان مسلحين، فأمروا بإيقاف الجميع، وأمر رئيس هؤلاء الثوار بجلب الحبال، لصنع مشنقة في ذات القاعة، يتم فيها شنق هؤلاء المارقين، لأن العدالة الثورية كما قال لا تحتمل التأجيل والابطاء، وأن التنفيذ سيتم فورا، والحكم سيصدر حالا، وخلق حالة من الرعب التي انتهت بأن عدل الرئيس عن هذا الراي، استجابة لدواعي الرحمة الثورية، وساقوا كل من حضر الندوة من المثقفين إلي السجن واقاموا محكمة صورية اصدرت حكمها عليهم بالسجن المؤبد، وبقوا في السجن أكثر من عشر سنوات، إلي أن أصابت القذافي نوبة من نوباته عندما قرر كاذبا هدم السجون وأعلن في خطاب علني عام 1988 أنه "اصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق" مقتبسا بيت شعر الفيتوري، وأطلق سراحهم وكان بينهم كل من الشعراء محمد الفقيه صالح، وإدريس المسماري، وإدريس بن الطيب، وعلي الرحيبي، وكتاب القصة والمقالة عمر أبوالقاسم الككلي، وجمعة ابوكليب، وأحمد الفيتوري، وأطلق معهم كتابا يمتد سجنهم إلي فترة سابقة ونوبة سابقة من نوبات الهيستيريا التي أصابت القذافي عام 1973 وإعلان ما سماه النقاط الخمس التي سبق الحديث عنها وشملت اعتقال وإهانة الفيلسوف عبد الرحمن بدوي، وكان ممن طالتهم حملات الاعتقال كتاب مثل منصور أبوشناف الكاتب المسرحي المعروف، والدكتور محمد المفتي، الناقد والمؤرخ وجراح القلب، والأستاذ الكاتب السياسي فريد أشرف الذي توفي بعد خروجه بوقت قصير . تمجيد العقيد ولحق الإهمال مجالات أخري مثل الغناء والموسيقي، إذ كانت ليبيا سباقة في هذا المجال ولها تاريخ في تعليم الموسيقي منذ أنشأ مدرسة الفنون والصنائع في القرن التاسع عشر التي كانت قد أطلقت عن طريق خريجيها حركة فنية، اسهمت في ازدهار الموسيقي في أقطار المغرب العربي، وخرجت إعلاما كبارا فاض إشعاعهم علي بلدان مثل تونس والمغرب والجزائر بينهم بشير فهمي وأحمد شاهين وجمال الدين الميلادي والعارف الجمل، وغيرهم من أساطين الموسيقي الشرقية وروادها الكبار في بلاد المغرب العربي، لكن تم إهمال هذا التراث لحساب أغاني الدعاية المباشرة، وعبادة الشخص، ولم يعد أحد يعرف كبار الملحنين والمطربين الذين حققوا شهرة واسعة في الخمسينات والستينات أمثال كاظم نديم ومحمد مرشان ومحمد صدقي ويوسف العالم وعادل عبد المجيد وسلام قدري وعبد اللطيف حويل ومحمد الجزيري ومحمد رشيد كما لاقي الإهمال جيل المثقفين من أبناء هذا المجال مثل الملحن النابغة علي ماهر وأبناء دفعته من أمثال وحيد خالد وعبدالباسط البدري وإبراهيم أشرف وعبد الجليل خالد الذين تم تهميشهم لحساب الخيمة الغنائية التي تهتم بتمجيد العقيد فيما يشبه المدائح النبوية.

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More