ثقافة الهرم المقلوب
الصباح العراقية : علي حسين عبيد
في العلاقة بين الثقافي والسياسي والاجتماعي رابط لا سبيل للفكاك منه، فهم يؤثرون في بعضهم بصورة متبادلة، حتى قيل أن الثقافة هي ناتج أكيد للحاضنة الاجتماعية، مثلما أن منظومة الاعراف والتقاليد، والسلوك الاجتماعي عموما محكوم بالمنظومة الثقافية السائدة، وينطبق هذا على الحيز السياسي بطبيعة الحال.
ثقافتنا هي ثقافة الهرم المقلوب الذي يقف على قمته بدلا من القاعدة كما هو متعارف، مثيرا تساؤلات لا حصر لها، وأخطاء لا حصر لها ايضا، ولنا أن نتصور بقليل من التأني وسعة الخيال هرما مقلوبا واقفا على قمته، فيما تنأى قاعدته عن مكانها الصحيح، إننا سنتفق حتما على أن خطأ ما قد وقع، لأن الاشياء كلها ينبغي أن تخضع لقانون النضج المتدرج، يبدأ الشيء صغيرا ضعيفا ثم يترعرع وينمو حتى يبلغ أشدّه، كما هي الحال مع الانسان الذي يبدأ وليدا، ثم شيئا فشيئا يتصاعد حتى يبلغ مرحلة الاكتمال، مواليد الحيوانات ينطبق عليها هذا ايضا، والنبات بدوره لا يشذ عن هذه القاعدة، ولكن ما الذي يخلّفه فينا مشهد الهرم المقلوب؟
تساؤل يطرح نفسه بقوة، ويقودنا الى تساؤل آخر، لماذا توصف ثقافتنا بهذا الوصف؟ وكيف نثبت بأنها ثقافة هرم مقلوب يتقاطع مع الطبيعة ونظام النضج؟.
في الثقافة تجارب كبيرة ناضجة، وأخرى في منتصف الطريق، وغيرها قد تبدأ الآن، أي أنها تجارب وليدة بحاجة الى الرعاية التي تشبه مراعاة الوليد البشري، او النباتي، او الحيواني، لكن ثقافة الهرم المقلوب تقدم الرعاية والاهتمام للتجارب الناضجة اكثر بأضعاف مما تقدمه للتجارب الوليدة او المتوسطة، ويبدو هذا جليا من خلال التركيز الاعلامي والتكريم للتجارب الراسخة وحضورها للانشطة والمهرجانات الثقافية بمختلف انواعها ومهامها، ودائما تجد اصحاب التجارب الراسخة التي بلغت سن النضج تتصدر صفوف الحاضرين مشاركين أو غيرهم، بل دائما هم يبدأون المؤتمرات والندوات ويستحوذون على حصة الاسد من القراءات والاضواء وما شابه، فيما يجلس اصحاب التجارب الوليدة في الصفوف الخلفية والاخيرة، مع تهميش واضح لإسناد وترسيخ تجاربهم.
هذا السلوك الثقافي يثير الدهشة حقا، ويؤكد بقوة حضور (قانون الحيتان الكبيرة تأكل الاسماك الصغيرة)، بمعنى أوضح أن المثقفين الكبار يأكلون صغارهم، وبتعبير واقعي يدمرون التجارب الوليدة بإهمالها، والتركيز على تجاربهم هم، على الرغم من بلوغها مرحلة النضج، بل تجاوزت ذلك الى الرسوخ الامثل.
ينعكس هذا السلوك الثقافي على المشهد المجتمعي برمته، وتصبح ثقافة الهرم المقلوب نهجا إجرائيا راسخا يوما بعد آخر، ليس بين اوساط المثقفين فحسب، بل يمتد الى عموم مكونات المجتمع، لهذا ليس غريبا أن تصبح حالات الاهتمام بالناضجين واهمال المبتدئين منظومة سلوك تغزو النسيج المجتمعي برمته.
فالقائد السياسي يتصدر الجالسين في المحافل السياسية، ويتحدث قبل صغار القوم ويعرض بل يفرض آراءه على الحاضرين والسامعين معا، ويحق له أن لا يستمع لغيره فيغادر القاعة متى شاء ذلك.
وقد صار هذا الازدراء بالآخرين (الاصغر) تجربة او عمرا او منصبا، حالة عامة ومتعارفة في ظل ثقافة الهرم المقلوب التي انعكست على السياسة والاجتماع. لذا علينا مراجعة ما أملته علينا هذه الثقافة المريضة، من أفكار وسلوكيات لا تنسجم مع التدرج الصحيح للتنامي والنضج، وحري بكبارنا الذين نضجت تجاربهم في الثقافة والسياسة والاجتماع وميادين الحياة الاخرى، أن يثقوا بأنفسهم وتجاربهم، وأن يجلسوا في الصفوف الأخيرة، وأن يكونوا أقل وآخر المتحدثين، وأن ينصبّ اهتمامهم على التجارب الوليدة (النسغ الصاعد)، لأنها ستدعم تجاربهم عندما يحاصرها الأفول أو الزوال.